عدد الرسائل : 40 نقاط : 0 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 04/07/2008
موضوع: أهمية السنة-الجزء الثانى الأحد سبتمبر 07, 2008 5:23 pm
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الصورة الثالثة: أن في القرآن الكريم آيات عامة، مع أن المراد منها خاص، ولا سبيل إلى تخصيصها وبيان مراد الله منها سوى السنة النبوية. والعام هو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين على سبيل الاستغراق والشمول، سواءٌ أكانت دلالته على ذلك بلفظه ومعناه، بأن كان بصيغة الجمع، كالمسلمين والمسلمات والرجال والنساء، أم كانت بمعناه فقط: كالرهط والقوم والجن والإنس. والخاص لفظ وضع للدلالة على فرد واحد أو أفراد محصورين. بعد هذا البيان لدلالة العام والخاص، نأتي على ذكر أمثلة لتخصيص السنة لعموم القرآن الكريم، فمن ذلك: 1. قول الله عز وجل: (حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخنْزيْرُ ...) [سورة المائدة: 3]. فهذه الآية تفيد أن كل ميتة وكل دم حرام، لكن جاءت السنة فخصصت من هذا التحريم نوعين من الميتة، ونوعين من الدماء يباح أكلهما. عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال" (1). 2. قول الله عز وجل: (الَّذيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يَلْبسُوْا إيْمَاْنَهُمْ بظُلْم أُوْلَئكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُوْنْ) [ الأنعام: 82]. فقد فهم بعض الصحابة من هذه الآية: أن المراد بالظلم: الجور أو مجاوزة الحد، لذلك جاءوا شاكين للنبي صلى الله عليه وسلم قائلين: وأينا لم يظلم نفسه؟ فطمأنهم النبي صلى الله عليه وسلم: بأن المراد في الآية: هو الشرك، وبذلك صارت السنة مخصصة للعموم الواقع في لفظ الظلم. عن علقمة، عن عبد الله – أي ابن مسعود – رضي الله عنه قال: " لما نزلت: (الّذيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يَلْبسُوْا إيْمَانَهُم بظُلْم) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْركْ باْلله إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيْمٌ)"(2). 3. قول الله عز وجل: (يُوْصِيْكُمُ اللهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَاْ مَا تَرَكَ وَإِنْ كَاْنَتْ وَاْحِدَةً فَلَهَا الْنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَاْنَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاْهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثْ فَإِنْ كَاْنَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ الْسُّدُسْ.....)[النساء: 11]. فهذه الآية أفادت: أن كل والد يرث ولده، وكل مولود يرث والده من غير تخصيص، حتى جاءت السنة فخصصت المورث بغير الأنبياء، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة" (3). وخصصت السنة الوارث أيضًا بغير القاتل، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" (4). كما خصصت السنة الاثنين معًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المؤمن الكافر, ولا الكافر المؤمن" (5). فكأن معنى الآية بعد التخصيص هو أن كل مورث من أب وأم يرثه أبناؤه إلا أن يكون المورث نبيًا، فإن الأنبياء لا يورثون، وإلا أن يكون الوارث قاتلاً لأصله المورث فإنه لا يرثه، وإلا أن يختلف الدين بين المورث والوارث فإنه لا توارث عند اختلاف الدين. الصورة الرابعة: إن في القرآن الكريم آيات مطلقة مع أن المراد منها مقيد، ولا سبيل لتقييدها، وبيان وجه الحق فيها غير السنة النبوية. والمطلق: هو ما دل على فرد شائع غير مقيد لفظًا بأي قيد، كحيوان وطائر وتلميذ، فهذه ألفاظ وضع كل منها للدلالة على فرد واحد شائع في جنسه. والمقيد: هو ما دل على فرد مقيد لفظًا بقيد ما، ومن أمثلة تقييد السنة لمطلق القرآن: 1. قول الله عز وجل: (وَالسَّاْرِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاْقْطَعُوْا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمْ)[ المائدة: 38]. فقطع اليد في الآية لم يقيد بموضع خاص، وعليه فيجوز القطع إلى المفصل، أو إلى المرفق، أو إلى المنكب لإطلاق اليد على كل ذلك, ولكن السنة جاءت فقيدت القطع بأن يكون إلى الرسغ أو إلى المفصل - أي: مفصل الكوع. عن ابن عمر رضي الله عنهما، "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون السارق من المفصل" (6). وفي البيهقي عن عمر: "أنه كان يقطع السارق من المفصل" (7). 2. قول الله عز وجل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ بِاْلْمَعْرُوْفِ حَقًا عَلَىْ الْمُتَّقِيْنْ)[البقرة: 180]. وقوله في آية النساء: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصِيْنَ بِهَا أَوْ دَيْنْ)[النساء: 11]. فالوصية هنا مطلقة لا يقيدها قيد، فجاءت السنة فقيدتها بما لا يزيد عن الثلث، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص عند ما أراد أن يوصي بالكثير من ماله: "الثلث، والثلث كثير" (. 3. قول الله عز وجل: (وَلْيَطَّوْفُوْا بِاْلبَيْتِ العَتِيْقِ)[سورة الحج: 29]. فهذا الأمر من الله تعالى يوجب الطواف مطلقًا، سواءٌ أكان الطائف على طهارة، أم على غير طهارة، وقيدته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهارة، فلا يطوف بالبيت الحرام إلا من كان طاهرًا. روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر حجته: "لتأخذوا عني مناسككم" (9). وقد جاء في حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت" (10). فقوله: "لتأخذوا عني مناسككم" يقتضي وجوب كل ما فعله – ومنها الطهارة للطواف – إلا ما قام دليل على عدم وجوبه. ويؤكد حكم الطهارة حديث عائشة لما حاضت وهي محرمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي حتى تغتسلي" (11). الصورة الخامسة: أن في القرآن الكريم آيات مشكلة مع غيرها أو مع سنن أخرى صحيحة أو مع العقل، ولو أخذت هذه الآيات على ظاهرها لأوقعت الإنسان في شيء من القلق أو الحيرة أو الاضطراب، ولا سبيل لرفع مثل هذه الإشكالات وإزالتها إلا السنة، ومن أمثلة ذلك: 1. قوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاْكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَىْ النَّاسِ وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا....) [ سورة البقرة: 143]. فإنها مشكلة مع واقع أمته صلى الله عليه وسلم، إذ هي متأخرة زمانًا، فكيف تكون شهيدة على الأمم السابقة؟ وكيف يكون الرسول شهيدًا على سائر الرسل السابقين أيضًا مع أنه آخرهم زمانًا؟. فجاءت السنة فأزالت هذه الإشكالات، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتدعى أمة محمد، فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك: أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه. قال: فذلك قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)[سورة البقرة: 143] (12). 2. قوله تعالى: (وَكُلُوْا وَاْشْرَبُوْا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوْا الْصِّيَامَ إِلَى الَّلْيْلْ....) [سورة البقرة: 187]. فقد فهم بعض الصحابة من الخيط الأبيض والخيط الأسود حقيقتهما وأنه يباح الأكل للصائم حتى تتبين له رؤيتهما. فجاءت السنة فرفعت هذا الإشكال، وبينت أن الخيط الأبيض والخيط الأسود: مجازان عن بياض النهار وسواد الليل. فعن عدي بن حاتم قال: "لما نزلت هذه الآية: (وَكُلُوْا وَاْشْرَبُوْا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل" (13). 3. ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عذب، فقلت: أليس قد قال الله عز وجل: (فَسَوْفَ يُحَاْسَبُ حِسَاْبًا يَسِيْرًا)؟ فقال: ليس ذاك الحساب وإنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب" (14). فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ظنت أن الحساب في قوله صلى الله عليه وسلم : "من حوسب يوم القيامة عذب" هو بعينه: الحساب المذكور في الآية، ومن هنا نشأ الإشكال عندها، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم مستوضحة الأمر، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم المراد: بأن الحساب في الحديث يراد منه المناقشة، وفي الآية يراد منه العرض على الله تعالى. وبالتالي فلا تعارض ولا إشكال لانفكاك الجهة، إذا التعارض أو الإشكال إنما يكون إذا اتحدت الجهة، ولا اتحاد هنا.